فصل: باب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوْ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلَافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ

مساءً 2 :48
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب، وكذلك جعلناكم أمة وسطا، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وهم أهل العلم‏)‏ أما الآية فلم يقع التصريح بما وقع التشبيه به، والراجح أنه الهدى المدلول عليه بقوله ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏ أي مثل الجعل القريب الذي اختصصناكم فيه بالهداية كما يقتضيه سياق الآية ووقع التصريح به في حديث البراء الماضي في تفسير سورة البقرة، والوسط العدل كما تقدم في تفسير سورة البقرة، وحاصل ما في الآية الامتنان بالهداية والعدالة، وأما قوله ‏"‏ وما أمر ‏"‏ إلى آخره فمطابقته لحديث الباب خفية، وكأنه من جهة الصفة المذكورة وهي العدالة لما كانت تعم الجميع لظاهر الخطاب، أشار إلى أنها من العام الذي أريد به الخاص، أو من العام المخصوص، لأن أهل الجهل ليسوا عدولا وكذلك أهل البدع، فعرف أن المراد بالوصف المذكور أهل السنة والجماعة وهم أهل العلم الشرعي ومن سواهم، ولو نسب إلى العلم فهي نسبة صورية لا حقيقية، وورد الأمر بلزوم الجماعة في عدة أحاديث منها ما أخرجه الترمذي مصححا من حديث الحارث بن الحارث الأشعري فذكر حديثا طويلا وفيه ‏"‏ وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن‏:‏ السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ‏"‏ وفي خطبة عمر المشهورة التي خطبها بالجابية ‏"‏ عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ‏"‏ وفيه ‏"‏ ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ‏"‏ وقال ابن بطال‏:‏ مراد الباب الحض على الاعتصام بالجماعة، لقوله ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله ‏"‏ وسطا ‏"‏ والوسط العدل، والمراد بالجماعة أهل الحل والعقد من كل عصر‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ مقتضى الأمر بلزوم الجماعة أنه يلزم المكلف متابعة ما أجمع عليه المجتهدون وهم المراد بقوله ‏"‏ وهم أهل العلم ‏"‏ والآية التي ترجم بها احتج بها أهل الأصول لكون الإجماع حجة لأنهم عدلوا بقوله تعالى ‏{‏جعلناكم أمة وسطا‏}‏ أي عدولا؛ ومقتضى ذلك أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولا وفعلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قَالَ عَدْلًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو أسامة‏)‏ قال الأعمش هو بحذف ‏"‏ قال ‏"‏ الثانية وقوله في آخره ‏"‏ وعن جعفر بن عون ‏"‏ هو معطوف على قوله ‏"‏ أبو أسامة ‏"‏ والقائل هو إسحاق بن منصور فروى هذا الحديث عن أبي أسامة بصيغة التحديث، وعن جعفر بن عون بالعنعنة، وهذا مقتضى صنيع صاحب الأطراف وأما أبو نعيم فجزم بأن رواية جعفر بن عون معلقة، فقال بعد أن أخرجه من طريق أبي مسعود الراوي عن أبي أسامة وحده، ومن طريق بندار ‏"‏ عن جعفر بن عون ‏"‏ وحده، أخرجه البخاري عن إسحاق بن منصور بن أبي أسامة، وذكره عن جعفر ابن عون بلا واسطة انتهى، وأخرجه الإسماعيلي من رواية بندار وقال إنه مختصر، وأخرجه من رواية أبي معاوية عن الأعمش مطولا، وقد تقدمت رواية أبي أسامة مقرونة برواية جرير بن عبد الحميد في تفسير سورة البقرة، وساقه هناك على لفظ جرير، وتقدم شرحه هناك، وفيه بيان أن الشهادة لا تخص قوم نوح بل تعم الأمم‏.‏

*3*باب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوْ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلَافَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا أجتهد العامل أو الحاكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ العالم ‏"‏ بدل العامل، و ‏"‏ أو ‏"‏ للتنويع، وقد تقدم في ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ ترجمة إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو مردود، وهي معقودة لمخالفة الإجماع وهذه معقودة لمخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام، قوله ‏(‏فأخطأ خلاف الرسول من غير علم‏)‏ أي لم يتعمد المخالفة وإنما خالف خطأ‏.‏

قوله ‏(‏فحكمه مردود لقول النبي صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ أي مردود، وقد تقدم هذا الحديث موصولا في ‏"‏ كتاب الصلح ‏"‏ عن عائشة بلفظ آخر، وأنه بهذا اللفظ موصول في صحيح مسلم وتقدم شرحه هناك، قال ابن بطال‏:‏ مراده أن من حكم بغير السنة جهلا أو غلطا يجب عليه الرجوع إلى حكم السنة، وترك ما خالفها امتثالا لأمر الله تعالى بإيجاب طاعة رسوله، وهذا هو نفس الاعتصام بالسنة‏:‏ وقال، الكرماني‏.‏

المراد بالعامل‏:‏ عامل الزكاة، وبالحاكم‏:‏ القاضي، وقوله ‏"‏فأخطأ ‏"‏ أي في أخذ واجب الزكاة أو في قضائه‏.‏

قلت‏:‏ وعلى تقدير ثبوت رواية الكشميهني فالمراد بالعالم‏:‏ المفتي، أي أخطأ في فتواه قال‏:‏ والمراد بقوله ‏"‏ فأخطأ خلاف الرسول ‏"‏ أي يكون مخالفا للسنة، قال وفي الترجمة نوع تعجرف‏.‏

قلت‏:‏ ليس فيها قلق إلا في اللفظ الذي بعد قوله ‏"‏ فأخطأ ‏"‏ فصار ظاهر التركيب ينافي المقصود، لأن من أخطأ خلاف الرسول لا يذم، بخلاف من أخطأ وفاقه، وليس ذلك المراد وإنما ثم الكلام عند قوله فأخطأ، وهو متعلق بقوله اجتهد، وقوله ‏"‏خلاف الرسول ‏"‏ أي فقال خلاف الرسول، وحذف ‏"‏ قال ‏"‏ يقع في الكلام كثيرا فأي عجرفة في هذا، والشارح من شأنه أن يوجه كلام الأصل مهما أمكن، ويغتفر القدر اليسير من الخلل تارة ويحمله على الناسخ تارة وكل ذلك في مقابلة الإحسان الكثير الباهر ولا سيما مثل هذا الكتاب، ووقع في حاشية نسخة الدمياطي بخطه الصواب في الترجمة ‏"‏ فأخطأ بخلاف الرسول ‏"‏ انتهى، وليس دعوى حذف الباء برافع للإشكال بل إن سلك طريق التغيير فلعل اللام متأخرة، ويكون في الأصل خالف بدل خلاف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي‏.‏

قوله ‏(‏عن أخيه‏)‏ هو أبو بكر واسمه عبد الحميد، ولإسماعيل في هذا الحديث شيخ آخر كما تقدم في آخر غزوة خيبر عن إسماعيل عن مالك، ونزل إسماعيل في هذا السند درجة، و ‏"‏ سليمان ‏"‏ هو ابن بلال و ‏"‏ عبد المجيد ‏"‏ بتقديم الميم على الجيم، وذكر أبو علي الجياني أن سليمان سقط من أصل الفربري فيما ذكر أبو زيد المروزي، قال‏:‏ والصواب إثباته فإنه لا يتصل السند إلا به، وقد ثبت كذلك في رواية إبراهيم بن معقل النسفي، قال‏:‏ وكذا لم يكن في كتاب ابن السكن، ولا عند أبي أحمد الجرجاني قلت‏:‏ وهو ثابت عندنا في النسخة المعتمدة من رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاثة عن الفربري، وكذا في سائر النسخ التي اتصلت لنا عن الفربري، فكأنها سقطت من نسخة أبي زيد فظن سقوطها من أصل شيخه، وقد جزم أبو نعيم في المستخرج بأن البخاري أخرجه عن إسماعيل عن أخيه عن سليمان، وهو يرويه عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري‏.‏

وأما رواية ابن السكن فلم أقف عليها‏.‏

قوله ‏(‏بعث أخا بني عدي‏)‏ أي ابن النجار بطن من الأوس، واسم هذا المبعوث ‏"‏ سواد ‏"‏ بفتح المهملة وتخفيف الواو ‏"‏ ابن غزية ‏"‏ بفتح المعجمة كسر الزاي مشددا، وتقدم ذلك في أواخر البيوع وتقدم شرح المتن في المغازي، وفي هذا السياق هنا زيادة قوله ‏"‏ ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا ‏"‏ إلى آخره، والمذكور هناك قوله ‏"‏ ولكن بع ‏"‏ إلى آخره، ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الصحابي اجتهد فيما فعل فرده النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه عما فعل وعذره لاجتهاده، ووقع في رواية عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد في غير هذه القصة لكن في نظير الحكم، فقال صلى الله عليه وسلم أوه، عين الربا لا تفعل‏.‏

*3*باب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ‏)‏ يشير إلى أنه لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم كما تقدمت الإشارة إليه، قال ابن المنذر وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا، واستدل بحديث ‏"‏ القضاة ثلاثة - وفيه - وقاض قضى بغير حق فهو في النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار ‏"‏ وهو حديث أخرجه أصحاب السنن عن بريدة بألفاظ مختلفة، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد، ويؤيد حديث الباب ما وقع في قصة سليمان في حكم داود عليه السلام في أصحاب الحرث، وقد تقدمت الإشارة إليها فيما مضى قريبا‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ في معالم السنن إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه، ثم إنما يؤجر العالم لأن اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط كذا قال‏:‏ وكأنه يرى أن قوله ‏"‏ وله أجر واحد ‏"‏ مجاز عن وضع الإثم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن محمد بن إبراهيم بن الحارث‏)‏ هو التيمي تابعي مدني ثقة مشهور ولأبيه صحبة، ‏"‏ وبسر ‏"‏ بضم الموحدة وسكون المهملة ‏"‏ وأبو قيس ‏"‏ مولي عمرو بن العاص لا يعرف اسمه كذا قاله البخاري وتبعه الحاكم أبو أحمد، وجزم ابن يونس في تاريخ مصر بأنه عبد الرحمن بن ثابت وهو أعرف بالمصريين من غيره، ونقل عن محمد بن سحنون أنه سمى أباه الحكم وخطأه في ذلك، وحكى الدمياطي أن اسمه سعد وعزاه لمسلم في الكنى، وقد راجعت نسخا من الكنى لمسلم فلم أر ذلك فيها، منها نسخه بخط الدار قطني الحافظ، وقرأت بخط ‏"‏ المنذري ‏"‏ وقع عند السبتي يعني ابن حبان في صحيحه ‏"‏ عن أبي قابوس ‏"‏ بدل أبي قيس كذا جزم به وقد روجعت عدة نسخ من صحيح ابن حبان فوجدت فيها ‏"‏ عن أبي قيس ‏"‏ إحداها صححها ابن عساكر وفي السند أربعة من التابعين في نسق، أولهم يزيد بن عبد الله وهو المعروف بابن الهاد وما لأبي قيس في البخاري إلا هذا الحديث‏.‏

قوله ‏(‏إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب‏)‏ في رواية أحمد ‏"‏ فأصاب ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ هكذا وقع في الحديث بدأ بالحكم قبل الاجتهاد والأمر بالعكس، فإن الاجتهاد يتقدم الحكم إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتفاقا، لكن التقدير في قوله ‏"‏ إذا حكم ‏"‏ إذا أراد أن يحكم فعند ذلك يجتهد، قال ويؤيده أن أهل الأصول قالوا‏:‏ يجب على المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على ما تقدم له لإمكان أن يظهر له خلاف غيره انتهى، ويحتمل أن تكون الفاء تفسيرية لا تعقيبية وقوله ‏"‏ فأصاب ‏"‏ أي صادف ما في نفس الأمر من حكم الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏ثم أخطأ‏)‏ أي ظن أن الحق في جهة، فصادف أن الذي في نفس الأمر بخلاف ذلك، فالأول له أجران‏:‏ أجر الاجتهاد وأجر الإصابة‏.‏

والآخر له أجر الاجتهاد فقط، وقد تقدمت الإشارة إلى وقوع الخطأ في الاجتهاد في حديث أم سلمة ‏"‏ إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ‏"‏ وأخرج لحديث الباب سببا من وجه آخر عن عمرو بن العاص من طريق ولده عبد الله بن عمرو عنه، ‏"‏ قال‏:‏ جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمان؛ فقال لعمرو اقض بينهما يا عمرو، قال‏:‏ أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال‏:‏ وإن كان قال فإذا قضيت بينما فمالي ‏"‏ فذكر نحوه لكن قال‏:‏ في الإصابة ‏"‏ فلك عشر حسنات ‏"‏ وأخرج من حديث عقبة بن عامر نحوه بغير قصة بلفظ ‏"‏ فلك عشرة أجور ‏"‏ وفي سند كل منهما ضعف، ولم أقف على اسم من أبهم في هذين الحديثين‏.‏

قوله ‏(‏قال فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم‏)‏ القائل فحدثت هو ‏"‏ يزيد بن عبد الله ‏"‏ أحد رواته، وأبو بكر بن عمرو نسب في هذه الرواية لجده وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وثبت ذكره في رواية مسلم من رواية الداودي عن يزيد، ونسبه فقال يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ يريد بمثل حديث عمرو بن العاص‏.‏

قوله ‏(‏وقال عبد العزيز بن المطلب‏)‏ أي ابن عبد الله بن حنطب المخزومي قاضي المدينة وكنيته أبو طالب وهو من أقران مالك ومات قبله، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع الواحد المعلق، وعبد الله بن أبي بكر هو والد الراوي المذكور في السند الذي قبله أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وكان قاضي المدينة أيضا‏.‏

قوله ‏"‏عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يريد أن عبد الله بن أبي بكر خالف أباه في روايته عن أبي سلمة وأرسل الحديث الذي وصله، وقد وجدت ليزيد بن الهاد فيه متابعا أخرجه عبد الرزاق وأبو عوانة من طريقه عن معمر عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري عن أبي بكر بن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فذكر الحديث مثله بغير قصة وفيه ‏"‏ فله أجران اثنان ‏"‏ قال أبو بكر بن العربي تعلق بهذا الحديث من قال إن الحق في جهة واحدة للتصريح بتخطئة واحد لا بعينه، قال وهي نازلة في الخلاف عظيمة‏.‏

وقال المازري تمسك به كل من الطائفتين من قال إن الحق في طرفين، ومن قال إن كل مجتهد مصيب، أما الأولى فلأنه لو كان كل مصيبا لم يطلق على أحدهما الخطأ لاستحالة النقيضين في حالة واحدة؛ وأما المصوبة فاحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم جعل له أجرا فلو كان لم يصب لم يؤجر، وأجابوا عن إطلاق الخطأ في الخبر على من ذهل عن النص أو اجتهد فيما لا يسوغ الاجتهاد فيه من القطعيات فيما خالف الإجماع فإن مثل هذا إن اتفق له الخطأ فيه نسخ حكمه وفتواه ولو اجتهد بالإجماع، وهو الذي يصح عليه إطلاق الخطأ، وأما من اجتهد في قضية ليس فيها نص ولا إجماع فلا يطلق عليه الخطأ، وأطال المازري في تقرير ذلك والانتصار له، وختم كلامه بأن قال إن من قال إن الحق في طرفين هو قول أكثر أهل التحقيق من الفقهاء والمتكلمين؛ وهو مروي عن الأئمة الأربعة وإن حكى عن كل منهم اختلاف فيه‏.‏

قلت‏:‏ والمعروف عن الشافعي الأول، قال القرطبي في المفهم‏:‏ الحكم المذكور ينبغي أن يختص بالحاكم بين الخصمين، لأن هناك حقا معينا في نفس الأمر يتنازعه الخصمان، فإذا قضى به لأحدهما بطل حق الآخر قطعا، وأحدهما فيه مبطل لا محالة، والحاكم لا يطلع على ذلك فهذه الصورة لا يختلف فيها أن المصيب واحد لكون الحق في طرف واحد، وينبغي أن يختص الخلاف بأن المصيب واحد، إذ كل مجتهد مصيب بالمسائل التي يستخرج الحق منها بطريق الدلالة‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ عندي في هذا الحديث فائدة زائدة حاموا عليها فلم يسقوا وهي‏:‏ أن الأجر على العمل القاصر على العامل واحد، والأجر على العمل المتعدي يضاعف، فإنه يؤجر في نفسه وينجر له كل ما يتعلق بغيره من جنسه فإذا قضى بالحق وأعطاه لمستحقه ثبت له أجر اجتهاده وجرى له مثل أجر مستحق الحق، فلو كان أحد الخصمين ألحن بحجته من الآخر فقضي له - والحق في نفس الأمر لغيره - كان له أجر الاجتهاد فقط‏.‏

قلت‏:‏ وتمامه أن يقال‏:‏ ولا يؤاخذ بإعطاء الحق لغير مستحقه لأنه لم يتعمد ذلك بل وزر المحكوم له قاصر عليه، ولا يخفي أن محل ذلك أن يبذل وسعه في الاجتهاد وهو من أهله، وإلا فقد يلحق به الوزر إن أخل بذلك والله أعلم‏.‏

*3*باب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ ظَاهِرَةً وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُورِ الْإِسْلَامِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الحجة على من قال أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة‏)‏ أي للناس لا تخفي إلا على النادر، وقوله ‏"‏وما كان يغيب بعضهم عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام ‏"‏ كذا للأكثر وفي رواية النسفي وعليها شرح ابن بطال ‏"‏ مشاهده ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ مشهد ‏"‏ بالإفراد، ووقع في مستخرج أبي نعيم ‏"‏ وما كان يفيد بعضهم بعضا ‏"‏ بالفاء والدال من الإفادة ولم أره لغيره ‏"‏ وما ‏"‏ في قوله ‏"‏ ما كان ‏"‏ موصولة، وجوز بعضهم أن تكون نافية، وأنها من بقية القول المذكور، وظاهر السياق يأباه، وهذه الترجمة معقودة لبيان أن كثيرا من الأكابر من الصحابة كان يغيب عن بعض ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو يفعله من الأعمال التكليفية، فيستمر على ما كان اطلع عليه هو إما على المنسوخ لعدم اطلاعه على ناسخه، وإما على البراءة الأصلية، وإذا تقرر ذلك قامت الحجة على من قدم عمل الصحابي الكبير، ولا سيما إذا كان قد ولى الحكم على رواية غيره متمسكا بأن ذلك الكبير لولا أن عنده ما هو أقوى من تلك الرواية لما خالفها، ويرده أن في اعتماد ذلك ترك المحقق للمظنون وقال ابن بطال أراد الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا يجوز العمل بما لم ينقل متواترا، قال‏:‏ وقولهم مردود بما صح أن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ورجع بعضهم إلى ما رواه غيره، وانعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد‏.‏

قلت‏:‏ وقد عقد البيهقي في المدخل باب الدليل على أنه قد يعزب على المتقدم الصحبة الواسع العلم الذي يعلمه غيره، ثم ذكر حديث أبي بكر في الجدة وهو في الموطأ، وحديث عمر في الاستئذان وهو المذكور في هذا الباب، وحديث ابن مسعود في الرجل الذي عقد على امرأة ثم طلقها فأراد أن يتزوج أمها، فقال‏:‏ لا بأس وإجازته بيع الفضة المكسرة بالصحيحة متفاضلا، ثم رجوعه عن الأمرين معا لما سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما، وأشياء غير ذلك، وذكر فيه حديث البراء ‏"‏ ليس كلنا كان يسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، كانت لنا صنعة وأشغال، ولكن كان الناس لا يكذبون، فيحدث الشاهد الغائب ‏"‏ وسنده ضعيف‏.‏

وكذا حديث أنس ‏"‏ ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه ولكن لم يكذب بعضنا بعضا ‏"‏ ثم سرد ما رواه صحابي عن صحابي مما وقع في الصحيحين‏.‏

وقال في هذا دلالة على إتقانهم في الرواية، وفيه أبين الحجة وأوضح الدلالة على تثبيت خبر الواحد، وأن بعض السنن كان يخفي عن بعضهم، وأن الشاهد منهم كان يبلغ الغائب ما شهد، وأن الغائب كان يقبله ممن حدثه ويعتمده ويعمل به‏.‏

قلت‏:‏ خبر الواحد في الاصطلاح خلاف المتواتر، سواء كان من رواية شخص واحد أو أكثر، وهو المراد بما وقع فيه الاختلاف ويدخل فيه خبر الشخص الواحد دخولا أوليا، ولا يرد على من عمل به ما وقع في حديث الباب من طلب عمر من أبي موسى البينة على حديث الاستئذان فإنه لم يخرج مع شهادة أبي سعيد له وغيره عن كونه خبر واحد، وإنما طلب عمر من أبي موسى البينة للاحتياط كما تقدم شرحه واضحا في ‏"‏ كتاب الاستئذان ‏"‏ وإلا فقد قبل عمر حديث عبد الرحمن ابن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وحديثه في الطاعون، وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، وحديث سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين إلى غير ذلك، وتقدم في العلم من حديث عمر أنه كان يتناوب النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل منهما الآخر بما غاب عنه، وكان غرضه بذلك تحصيل ما يقوم بحاله وحال عياله ليغني عن الاحتياج لغيره، ليتقوى على ما هو بصدده من الجهاد، وفيه أنه لا يشترط على من أمكنته المشافهة أن يعتمدها، ولا يكتفي بالواسطة لثبوت ذلك من فعل الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بغير نكير، وأما حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، فإن فيه بيان السبب في خفاء بعض السنن على بعض كبار الصحابة، وقوله وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وهو موافق لقول عمر في الذي قبله ‏"‏ ألهاني الصفق بالأسواق ‏"‏ يشير إلى أنهم كانوا أصحاب تجارة، وقد تقدم ذلك في أوائل البيوع، وتوجيه قول عمر ‏"‏ ألهاني ‏"‏ واختلف على الزهري في الواسطة بينه وبين أبي هريرة فيه كما بينته في العلم، وتقدم عنه من رواية مالك مثله لكن عند مالك زيادة ليست في رواية سفيان هذه، وهي قوله ‏"‏ ولولا آيتان من كتاب الله ‏"‏ وفي رواية سفيان مما ليس في رواية مالك قوله ‏"‏ والله الموعد ‏"‏ وكذلك ما في آخره كما سأبينه، وأما إبراهيم بن سعد فذكر الحديث بتمامه فهو أتم الجميع سياقا، وثبت ذلك في رواية شعيب في البيوع بزيادة سأبينها لكن لم يقع عنده ذكر الآيتين، وقد تقدم هذا الحديث في العلم من طريق مالك، وفي المزارعة من طريق إبراهيم بن سعد كلاهما عن الزهري عن الأعرج، وتقدم في أول البيوع من رواية شعيب وأخرجه مسلم من رواية يونس كلاهما عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الْأَعْرَجِ يَقُولُ أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث‏)‏ في رواية مالك ‏"‏ إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان ابن شهاب يذكر قيل هذا حديثه عن عروة أنه حدثه عن عائشة قالت‏:‏ ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث، يسمعني ذلك ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم، فذكر الحديث‏.‏

ثم يقول‏:‏ قال سعيد بن المسيب ‏"‏ قال‏:‏ يقولون إن أبا هريرة قد أكثر ‏"‏ هكذا أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب‏.‏

وحديث عائشة تقدم في الترجمة النبوية من طريق الليث عن يونس بن يزيد معلقا، وتقدم شرحه هناك، وتقدم أيضا في الجنائز من طريق جرير بن حازم عن نافع قال ‏"‏ حدث ابن عمر أن أبا هريرة يقول ‏"‏ فذكر الحديث في فضل اتباع الجنائز فقال ابن عمر ‏"‏ أكثر علينا أبو هريرة فصدقت عائشة أبا هريرة ‏"‏ أي في الحديث المذكور، وقوله ‏"‏على ‏"‏ يتعلق بقوله ‏"‏ يكثر ‏"‏ ولو تعلق بقوله ‏"‏ الحديث ‏"‏ لقال عن‏.‏

قوله ‏(‏والله الموعد‏)‏ تقدم شرحها في ‏"‏ كتاب المزارعة ‏"‏ زاد شعيب بن أبي حمزة في روايته‏:‏ ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي هريرة، في رواية يونس عند مسلم مثل أحاديثه وزاد‏:‏ سأخبركم عن ذلك وتقدم في المزارعة نحو هذا ونبهت على ذلك في ‏"‏ كتاب العلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إني كنت امرأ مسكينا‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ رجلا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية مسلم أخدم‏.‏

قوله ‏(‏على ملء بطني‏)‏ بكسر الميم وبهمزة آخره أي بسبب شبعي، أي إن السبب الأصلي الذي اقتضى له كثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمته له ليجد ما يأكله، لأنه لم يكن له شيء يتجر فيه، ولا أرض يزرعها ولا يعمل فيها، فكان لا ينقطع عنه خشية أن يفوته القوت، فيحصل في هذه الملازمة من سماع الأقوال ورواية الأفعال ما لا يحصل لغيره ممن لم يلازمه ملازمته، وأعانه على استمرار حفظه لذلك ما أشار إليه من الدعوة النبوية له بذلك‏.‏

قوله ‏(‏وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق‏)‏ في وراية يونس ‏"‏ وإن إخواني من المهاجرين‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم‏)‏ في رواية يونس ‏"‏ وأن إخواني عن الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم ‏"‏ وفي رواية شعيب ‏"‏ عمل أموالهم ‏"‏ وقد تقدم بيان ذلك قريبا، وزاد في رواية يونس ‏"‏ فيشهد إذا غابوا ويحفظ إذا نسوا‏"‏‏.‏

وفي رواية شعيب ‏"‏ وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة أعي حيث ينسون‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فشهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من يبسط رداءه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ من بسط ‏"‏ بلفظ الفعل الماضي‏.‏

قوله ‏(‏فلم ينس‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فلن ينسى ‏"‏ ونقل ابن التين أنه وقع في رواية ‏"‏ فلن ينس ‏"‏ بالنون وبالجزم، وذكر أن القزاز نقل عن بعض البصريين‏:‏ أن من العرب من يجزم بلن قال‏:‏ وما وجدت له شاهدا، وأقره ابن التين ومن تبعه، وقد ذكر غيره لذلك شاهدا وهو قول الشاعر‏:‏ لن يحب اليوم من رجائك من حرك من دون بابك الحلقة وفيه نظر لأنه يصح أن يكون في الأصل ‏"‏ لم ‏"‏ الجازمة فتغيرت بلن، لكن إن كان محفوظا فلعل الشاعر قصد ‏"‏ لن ‏"‏ لكونها أبلغ هنا في المدح من لم والله أعلم‏.‏

وتقدم في باب الأمن من ‏"‏ كتاب التعبير ‏"‏ توجيه ابن مالك لنظير هذا في قول ‏"‏ لن ترع ‏"‏ وحكايته عن الكسائي أن الجزم بلن لغة لبعض العرب، قوله ‏(‏فبسطت بردة‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ نمرة ‏"‏ وتقدم تفسيرها في أول البيوع، وذكر في العلم بيان الاختلاف في المراد بقوله ‏"‏ ما نسيت شيئا سمعته منه‏"‏‏.‏

*3*باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً لَا مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة‏)‏ النكير بفتح النون وزن عظيم‏:‏ المبالغة في الإنكار‏.‏

وقد اتفقوا على أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما يفعل بحضرته أو يقال ويطلع عليه بغير إنكار دال على الجواز، لأن العصمة تنفي عنه ما يحتمل في حق غيره مما يترتب على الإنكار فلا يقر على باطل، فمن ثم قال ‏"‏ لا من غير الرسول ‏"‏ فإن سكوته لا يدل على الجواز، ووقع في تنقيح الزركشي في الترجمة بدل قوله لا من غير الرسول ‏"‏ لأمر يحضره الرسول ‏"‏ ولم أره لغيره، وأشار ابن التين إلى أن الترجمة تتعلق بالإجماع السكوتي، وأن الناس اختلفوا، فقالت طائفة‏:‏ لا ينسب لساكت قول لأنه في مهلة النظر‏.‏

وقالت طائفة إن قال المجتهد قولا وانتشر لم يخالفه غيره بعد الاطلاع عليه فهو حجة، وقيل لا يكون حجة حتى يتعدد القيل به، ومحل هذا الخلاف أن لا يخالف ذلك القول نص كتاب أو سنة، فإن خالفه فالجمهور على تقديم النص، واحتج من منع مطلقا أن الصحابة اختلفوا في كثير من المسائل الاجتهادية، فمنهم من كان ينكر على غيره إذا كان القول عنده ضعيفا، وكان عنده ما هو أقوى منه من نص كتاب أو سنة، ومنهم من كان يسكت فلا يكون سكوته دليلا على الجواز، لتجويز أن يكون لم يتضح له الحكم، فسكت لتجويز أن يكون ذلك القول صوابا وإن لم يظهر له وجهه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ قُلْتُ تَحْلِفُ بِاللَّهِ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا حماد بن حميد‏)‏ هو خراساني فيما ذكر أبو عبد الله بن منده في رجال البخاري، وذكر ابن رشيد في فوائد رحلته، والمزي في التهذيب أن في بعض النسخ القديمة من البخاري ‏"‏ حدثنا حماد بن حميد صاحب لنا ‏"‏ حدثنا بهذا الحديث وعبيد الله بن معاذ في الأحياء، وذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ‏"‏ حماد بن حميد ‏"‏ نزيل عسقلان روى عن بشر بن بكر وأبي ضمرة وغيرهما وسمع منه أبو حاتم وقال شيخي فزعم أبو اليد الباجي في رجال البخاري أنه هو الذي روي عنه البخاري هنا وهو بعيد، وقد بينت ذلك في تهذيب التهذيب وقد أخرج مسلم حديث الباب عن عبيد الله بن معاذ بلا واسطة، وهو أحد الأحاديث التي نزل فيها البخاري عن مسلم، أخرجها مسلم عن شيخ وأخرجها البخاري بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ وهي أربعة أحاديث ليس في الصحيح غيرها بطريق التصريح، وفيه عدة أحاديث نحو الأربعين مما يتنزل منزلة ذلك، وقد أفردتها في جزء جمعت ما وقع للبخاري من ذلك فكان أضعاف أضعاف ما وقع لمسلم، وذلك أن مسلما في هذه الأربعة باق على الرواية عن الطبقة الأول أو الثانية من شيوخه، وأما البخاري فإنه نزل فيها عن طبقته العالية بدرجتين، مثال ذلك من هذا الحديث أن البخاري إذا روى حديث شعبة عاليا كان بينه وبينه راو واحد، وقد أدخل بينه وبين شعبة فيه ثلاثة، وأما مسلم فلا يروي حديث شعبة بأقل من واسطتين‏.‏

والحديث الثاني من الأربعة مضى في تفسير سورة الأنفال، أخرجه عن أحمد وعن محمد بن النضر النيسابوريين عن عبيد الله بن معاذ أيضا عن أبيه عن شعبة بسند آخر، وأخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ نفسه‏.‏

والحديث الثالث أخرجه في آخر المغازي عن أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد بن حنبل عن معتمر ابن سليمان عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه في عدد الغزوات، وأخرجه مسلم عن أحمد ابن حنبل بهذا السند بلا واسطة‏.‏

والحديث الرابع وقع في ‏"‏ كتاب كفارة الأيمان ‏"‏ عن محمد بن عبد الرحيم، وهو الحافظ المعروف بصاعقة عن داود بن رشيد عن الوليد بن مسلم عن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد ابن أسلم عن علي بن الحسين بن علي بن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة في فضل العتق، وأخرجه مسلم عن داود بن رشيد نفسه وهذا مما نزل فيه البخاري عن طبقته درجتين، لأنه يروي حديث ابن غسان بواسطة واحدة كسعيد بن أبي مريم، وهنا بينهما ثلاث وسائط، وقد أشرت لكل حديث من هذه الأربعة في موضعه، وجمعتها هنا تتميما للفائدة، وعبيد الله بن معاذ أي ابن معاذ بن نصر بن حسان العنبري، وسعد ابن إبراهيم أي ابن عبد الرحمن بن عوف، وروايته عن محمد بن المنكدر من الأقران لأنه من طبقته‏.‏

قوله ‏(‏رأيت جابر بن عبد الله يحلف‏)‏ أي شاهدته حين حلف‏.‏

قوله ‏(‏أن ابن الصياد‏)‏ كذا لأبي ذر بصيغة المبالغة، ووقع عند ابن بطال مثله لكن بغير آلف ولام وكذا في رواية مسلم وللباقين ‏"‏ ابن الصائد ‏"‏ بوزن الظالم‏.‏

قوله ‏(‏تحلف بالله قال إني سمعت عمر، إلخ‏)‏ كأن جابرا لما سمع عمر يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، فهم منه المطابقة، ولكن بقي أن شرط العمل بالتقرير أن لا يعارضه التصريح بخلافه، فمن قال أو فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأقره دل ذلك على الجواز، فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم افعل خلاف ذلك دل على نسخ ذلك التقرير، إلا إن ثبت دليل الخصوصية، قال ابن بطال بعد أن قرر دليل جابر فإن قيل تقدم يعني كما في الجنائز أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن الصياد ‏"‏ دعني أضرب عنقه، فقال‏:‏ إن يكن هو فلن تسلط عليه ‏"‏ فهذا صريح في أنه تردد في أمره، يعني فلا يدل سكوته عن إنكاره عند حلف عمر على أنه هو، قال وعن ذلك جوابان، أحدهما أن الترديد كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه هو الدجال، فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه‏.‏

والثاني‏:‏ أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك وإن لم يكن في الخبر شك، فيكون ذلك من تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بعمر في صرفه عن قتله انتهى ملخصا‏.‏

ثم ذكر ما ورد عن غير جابر، مما يدل على أن ابن صياد هو الدجال، كالحديث الذي أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ لقيت ابن صياد يوما ومعه رجل من اليهود، فإذا عينه قد طفئت وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها قلت‏:‏ أنشدك الله يا ابن صياد متى طفئت عينك‏؟‏ قال لا أدري والرحمن‏.‏

قلت‏:‏ كذبت لا تدري وهي في رأسك، قال فمسحها ونخر ثلاثا، فزعم اليهودي أني ضربت بيدي صدره، وقلت له‏:‏ اخسأ فلن تعدو قدرك‏.‏

فذكرت ذلك لحفصة، فقالت حفصة‏:‏ اجتنب هذا الرجل فإنما يتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها ‏"‏ انتهى‏.‏

وقد أخرج مسلم هذا الحديث بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه ‏"‏ لقيته مرتين ‏"‏ فذكر الأولى ثم قال ‏"‏ لقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه، فقلت متى فعلت عينك ما أرى‏؟‏ قال ما أدري، قلت‏:‏ لا تدري وهي في رأسك، قال إن شاء الله جعلها في عصاك هذه، ونخر كأشد نخير حمار سمعت، فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأنا والله ما شعرت ‏"‏ قال‏:‏ وجاء حتى دخل على أم المؤمنين حفصة فحدثها فقالت ما تريد إليه‏؟‏ ألم تسمع أنه قد قال‏:‏ إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه، ثم قال ابن بطال‏:‏ فإن قيل هذا أيضا يدل على التردد في أمره فالجواب أنه إن وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى بن مريم، فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ‏"‏ إن بين يدي الساعة دجالين كذابين ‏"‏ يعني الحديث الذي مضى مع شرحه في ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ انتهى، ومحصله عدم تسليم الجزم بأنه الدجال، فيعود السؤال الأول عن جواب حلف عمر ثم جابر على أنه الدجال المعهود، لكن في قصة حفصة وابن عمر دليل على أنهما أرادا الدجال الأكبر واللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن موسى بن عقبة عن نافع قال كان ابن عمر يقول والله ما أشك أن المسيح الدجال هو ابن صياد، ووقع لابن صياد مع أني سعيد الخدري قصة أخرى تتعلق بأمر الدجال، فأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال ‏"‏ صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي‏:‏ ماذا لقيت من الناس يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه لا يولد له، قلت‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فإنه قد ولد لي، قال أو لست سمعته يقول لا يدخل المدينة ولا مكة، قلت بلى‏.‏

قال‏:‏ فقد ولدت بالمدينة وها أنا أريد مكة ‏"‏ ومن طريق سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال‏:‏ أخذتني من ابن صياد دمامة، فقال‏:‏ هذا عذرت الناس ما لي وأنتم يا أصحابي محمد، ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه يعني الدجال يهودي وقد أسلمت ‏"‏ فذكر نحوه ومن طريق الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد ‏"‏ خرجنا حجاجا ومعنا ابن صياد فنزلنا منزلا وتفرق الناس، وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال فيه‏.‏

فقلت‏:‏ الحر شديد فلو وضعت ثيابك تحت تلك الشجرة ففعل، فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال اشرب يا أبا سعيد، فقلت إن الحر شديد وما بي إلا أن أكره أني أشرب من يده، فقال‏:‏ لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم اختنق به، مما يقول لي الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار‏.‏

ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد قال أبو سعيد ‏"‏ حتى كدت أعذره ‏"‏ وفي آخر كل من الطرق الثلاثة أنه قال ‏"‏ إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن ‏"‏ قال أبو سعيد‏:‏ فقلت له تبا لك سائر اليوم، لفظ الجريري وأجاب البيهقي عن قصة ابن صياد بعد أن ذكر ما أخرجه أبو داود من حديث أبي بكرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكث أبو الدجال ثلاثين عاما لا يولد لهما ثم يولد لهما غلام أعور أضر شيء وأقله نفعا ونعت أباه وأمه، قال‏:‏ فسمعنا بمولود ولد في اليهود، فذهبت أنا والزبير بن العوام فدخلنا على أبويه، فإذا النعت فقلنا هل لكما من ولد قالا مكثنا ثلاثين عاما لا يولد لنا ثم ولد لنا غلام أضر شيء وأقله نفعا ‏"‏ الحديث‏.‏

قال البيهقي‏:‏ تفرد به علي بن زيد بن جدعان وليس بالقوي‏.‏

قلت‏:‏ ويوهي حديثه أن أبا بكرة إنما أسلم لما نزل من الطائف حين حوصرت سنة ثمان من الهجرة، وفي حديث ابن عمر الذي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى النخل التي فيها ابن صياد كان ابن صياد يومئذ كالمحتلم، فمتى يدرك أبو بكرة زمان مولده بالمدينة وهو لم يسكن المدينة إلا قبل الوفاة النبوية بسنتين، فكيف يتأتى أن يكون في الزمن النبوي كالمحتلم، فالذي في الصحيحين هو المعتمد ولعل الوهم وقع فيما يقتضي تراخي مولد ابن صياد أولا، وهم فيه بل يحتمل قوله ‏"‏ بلغنا أنه ولد لليهود مولود ‏"‏ على تأخر البلاغ وإن كان مولده كان سابقا على ذلك بمدة، بحيث يأتلف مع حديث ابن عمر الصحيح، ثم قال البيهقي‏:‏ ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفا في أمره ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد وطريقه أصح، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال‏.‏

قلت‏:‏ قصة تميم أخرجها مسلم من حديث فاطمة بنت قيس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فذكر أن تميما الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلا من قومه، فلعب بهم الموج شهرا ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر فقالت لهم‏:‏ أنا الجساسة، ودلتهم على رجل في الدير، قال فانطلقنا سراعا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد، فقلنا ويلك ما أنت ‏"‏ فذكر الحديث، وفيه أنه سألهم عن نبي الأميين هل بعث، وأنه قال إن يطيعوه فهو خير لهم، وأنه سألهم عن بحيرة طبرية، وعن عين زغر وعن نخل بيسان، وفيه أنه قال إني مخبركم عني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، وفي بعض طرقه عند البيهقي أنه شيخ، وسندها صحيح قال البيهقي‏:‏ فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وقد خرج أكثرهم وكان الذين يجزمون بابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلا فالجمع بينهما بعيد جدا إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم، ويجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله أن يكون في آخرها شيخا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزائر البحر موثقا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا‏؟‏ فالأولى أن يحمل على عدم الاطلاع، أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم، ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور‏.‏

وأما جابر فشهد حلفه عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستصحب ما كان أطلع عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أخرج أبو داود من رواية الوليد ابن عبد الله بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر، فذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم، قال‏:‏ قال - أي الوليد - فقال لي ابن أبي سلمة‏:‏ إن في هذا شيئا ما حفظته، قال شهد جابر أنه ابن صياد، قلت‏:‏ فإنه قد مات، قال‏:‏ وإن مات‏.‏

قلت‏:‏ فإنه أسلم، قال‏:‏ وإن أسلم‏.‏

قلت‏:‏ فإنه دخل المدينة، قال وإن دخل المدينة انتهى‏.‏

وابن أبي مسلمة، اسمه عمر فيه مقال ولكن حديثه حسن، ويتعقب به على من زعم أن جابرا لم يطلع على قصة تميم؛ وقد تكلم ابن دقيق العيد على مسألة التقرير في أوائل ‏"‏ شرح الإلمام ‏"‏ فقال‏:‏ ما ملخصه إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي، فهل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلا على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر، حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل، فيه نظر‏.‏

قال‏:‏ والأقرب عندي أنه لا يدل، لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة، إلا أن يدعي مدع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة فيحتاج إلى دليل وهو عاجز عنه، نعم التقرير يسوغ الحلف على ذلك على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم انتهى ملخصا‏.‏

ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوفي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأولى، قال الخطابي اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره، فروى أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى يراه الناس، وقيل لهم اشهدوا‏.‏

وقال النووي‏:‏ قال العلماء قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء، وإنما أوحى إليه بصفات الدجال‏.‏

وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء بل قال لعمر ‏"‏ لا خير لك في قتله ‏"‏ الحديث وأما احتجاجاته هو بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر فلا دلالة فيه على دعواه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان قال‏:‏ ومن جملة ما في قصته قوله للنبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أتشهد أني رسول الله ‏"‏ وقوله ‏"‏ أنه يأتيه صادق وكاذب ‏"‏ وقوله ‏"‏ إنه تنام عينه ولا ينام قلبه ‏"‏ وقوله ‏"‏ أنه يرى عرشا على الماء، وأنه لا يكره أن يكون الدجال، وأنه يعرفه ويعرف مولده وموضعه وأين هو الآن ‏"‏ قال‏:‏ وأما إسلامه وحجه وجهاده فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال، لاحتمال أن يختم له بالشر، فقد أخرج أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق من طريق شبيل بمعجمة وموحدة مصغرا آخره لام، ابن عرزة بمهملة ثم زاي بوزن ضربة، عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال‏:‏ لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها فنمتار منها، فأتيتها يوما فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فسألت صديقا لي منهم فقال ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل فبت عنده على سطح فصليت الغداة ‏"‏ فلما طلعت الشمس إذا لرهج من قبل العسكر فنظرت، فإذا رجل عليه قبة من ريحان واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة‏.‏

قلت‏:‏ وعبد الرحمن ابن حسان ما عرفته والباقون ثقات، وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال ‏"‏ فقدنا ابن صياد يوم الحرة ‏"‏ وبسند حسن، مضى التنبيه عليه فقيل إنه مات‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة، وأنهم صلوا عليه وكشفوا عن وجهه، ولا يلتئم خبر جابر هذا مع خبر حسان بن عبد الرحمن، لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها، وبين قتل عمر ووقعة الحرة نحو أربعين سنة ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب لما في قوله لما افتتحنا أصبهان محذوفا تقديره‏:‏ صرت أتعاهدها وأتردد إليها فجرت قصة ابن صياد، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخولها ابن صياد‏.‏

وقد أخرج الطبراني في الأوسط من حديث فاطمة بنت قيس مرفوعا‏:‏ إن الدجال يخرج من أصبهان؛ ومن حديث عمران بن حصين حين أخرجه أحمد بسند صحيح عن أنس‏:‏ لكن عنده من يهودية أصبهان، قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان كانت اليهودية من جملة قرى أصبهان، وإنما سميت اليهودية لأنها كانت تختص بسكنى اليهود قال‏:‏ ولم تزل على ذلك إلى أن مصرها أيوب بن زياد أمير مصر في زمن المهدي بن المنصور، فسكنها المسلمون وبقيت لليهود منها قطعة منفردة، وأما ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا قال ‏"‏ يتبع الدجال سبعون ألفا من يهود أصبهان ‏"‏ فلعلها كانت يهودية أصبهان، يريد البلد المذكور لا إن المراد جميع أهل أصبهان يهود، وأن القدر الذي يتبع الدجال منهم سبعون ألفا، وذكر نعيم بن حماد شيخ البخاري في ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ أحاديث تتعلق بالدجال وخروجه إذا ضمت إلى ما سبق ذكره في أواخر ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ انتظمت منها له ترجمة تامة، منها ما أخرجه من طريق جبير بن نفير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة، قالوا جميعا ‏"‏ الدجال ليس هو إنسان وإنما هو شيطان موثق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره، فإذا إن طهوره فك الله عنه كل عام حلقة‏.‏

فإذا برز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا فيضع على ظهرها منبرا من نحاس ويقعد عليه ويتبعه قبائل الجن يخرجون له خزائن الأرض ‏"‏ قلت‏:‏ وهذا لا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال، ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب‏.‏

وأخرج أبو نعيم أيضا من طريق كعب الأحبار أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر، قال وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة، قال ولم ينزل خبره في التوراة والإنجيل، وإنما هو في بعض كتب الأنبياء انتهى‏.‏

وأخلق بهذا الخبر أن يكون باطلا، فإن الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال‏.‏

وكونه يولد قبل مخرجه بالمدة المذكورة مخالف لكونه ابن صياد ولكونه موثقا في جزيرة من جزائر البحر‏.‏

وذكر ابن وصيف المؤرخ أن الدجال من ولد شق الكاهن المشهور، قال وقال بل هو شق نفسه أنظره الله وكانت أمه جنية عشقت أباه فأولدها، وكان الشيطان يعمل له العجائب فأخذه سليمان فحبسه في جزيرة من جزائر البحر، وهذا أيضا في غاية الوهي، وأقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا، وأن ابن صياد شيطان تبدي في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها، ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم، وقد توهم بعضهم أنه غريب فرد وليس كذلك فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد من رواية عامر الشعبي عن المحرز بن أبي هريرة عن أبيه بطوله‏.‏

وأخرجه أبو داود مختصرا وابن ماجه عقب رواية الشعبي عن فاطمة، قال الشعبي‏:‏ فلقيت المحرز فذكره، وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أبي هريرة قال ‏"‏ استوى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال حدثني تميم - فرأى تميما في ناحية المسجد - فقال يا تميم حدث الناس بما حدثتني ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فإذا أحد منخريه ممدود وإحدى عينيه مطموسة ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ لأطأن الأرض بقدمي هاتين إلا مكة وطابا ‏"‏ وأما حديث عائشة فهو في الرواية المذكورة عن الشعبي قال ‏"‏ ثم لقيت القاسم بن محمد فقال‏:‏ أشهد على عائشة حدثتني بما حدثتك فاطمة بنت قيس‏"‏‏.‏

وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود بسند حسن من رواية أبي سلمة عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر أنه بينما أناس يسيرون في البحر فنفد طعامهم فرفعت لهم جزيرة فخرجوا يريدون الخبر فلقيتهم الجساسة ‏"‏ فذكر الحديث وفيه سؤالهم عن نخل بيسان، وفيه أن جابرا شهد أنه ابن صياد، فقلت إنه قد مات قال وإن مات، قلت‏:‏ فإنه أسلم قال‏:‏ وإن أسلم، قلت‏:‏ فإنه دخل المدينة قال‏:‏ وإن دخل المدينة، وفي كلام جابر إشارة إلى أن أمره ملبس وأنه يجوز أن يكون ما ظهر من أمره إذ ذاك لا ينافي ما توقع منه بعد خروجه في آخر الزمان، وقد أخرج أحمد من حديث أبي ذر ‏"‏ لأن أحلف عشر مرار أن ابن صياد هو الدجال، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه ليس هو ‏"‏ وسنده صحيح ومن حديث ابن مسعود نحوه لكن قال ‏"‏ سبعا ‏"‏ بدل عشر مرات أخرجه الطبراني والله أعلم؛ وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن، ومن صوره المتفق عليها عند الشافعية ومن تبعهم أن من وجد بخط أبيه الذي يعرفه أن له عند شخص ما لا وغلب على ظنه صدقه أن له إذا طالبه، وتوجهت عليه اليمين أن يحلف على البت أنه يستحق قبض ذلك منه‏.‏

*3*باب الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ

وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلَالَةِ وَتَفْسِيرُهَا وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّبُّ فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الأحكام التي تعرف بالدلائل‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ بالدليل ‏"‏ بالإفراد، والدليل ما يرشد إلى المطلوب ويلزم من العلم به العلم بوجود المدلول، وأصله في اللغة من أرشد قاصد مكان ما إلى الطريق الموصل إليه‏.‏

قوله ‏(‏وكيف معنى الدلالة وتفسيرها‏)‏ يجوز في الدلالة فتح الدال كسرها وحكى الضم والفتح أعلى، والمراد بها في عرف الشرع الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم فهذا معنى الدلالة، وأما ‏"‏ تفسيرها ‏"‏ فالمراد به تبيينها وهو تعليم المأمور كيفية ما أمر به وإلى ذلك الإشارة في ثاني أحاديث الباب، ويستفاد من الترجمة بيان الرأي المحمود وهو ما يؤخذ مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله بطريق التنصيص وبطريق الإشارة، فيندرج في ذلك الاستنباط ويخرج الجمود على الظاهر المحض‏.‏

قوله ‏(‏وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر الخيل إلخ‏)‏ يشير إلى أول أحاديث الباب ومراده أن قوله تعالى ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ إلى آخر السورة عام في العامل وفي عمله، وأنه صلى الله عليه وسلم لما بين حكم اقتناء الخيل وأحوال مقتنيها وسئل عن الحمر، أشار إلى أن حكمها وحكم الخيل وحكم غيرها مندرج في العموم الذي يستفاد من الآية‏.‏

قوله ‏(‏وسئل عن الضب إلخ‏)‏ يشير إلى ثالث أحاديث الباب، ومراده بيان حكم تقريره صلى الله عليه وسلم وأنه يفيد الجواز إلى أن توجد قرينة تصرفه إلى غير ذلك ثم ذكر فيه خمسة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ قَالَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ الخيل لثلاثة ‏"‏ وقد مضى شرحه في ‏"‏ كتاب الجهاد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وسئل‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم واسم السائل عن ذلك يمكن أن يفسر بصعصعة بن معاوية عم الأحنف التميمي، وحديثه في ذلك عند النسائي في التفسير، وصححه الحاكم ولفظه ‏"‏ قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول من يعمل مثقال ذرة خيرا يره - إلى آخر السورة - قال ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي حسبي ‏"‏ وحكى ابن بطال عن المهلب أن هذا الحديث حجة في إثبات القياس، وفيه نظر تقدم التنبيه عليه عند شرحه في ‏"‏ كتاب الجهاد ‏"‏ وأشرت إليه في باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ شَيْبَةَ حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَيْضِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ قَالَ تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِينَ بِهَا قَالَتْ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّئِي قَالَتْ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّئِينَ بِهَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَعَرَفْتُ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ فَعَلَّمْتُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا يحيى‏)‏ كذا لأبي ذر غير منسوب، وصنيع ابن السكن يقتضي أنه ابن موسى البلخي، وتقدمت إليه الإشارة في ‏"‏ كتاب الطهارة ‏"‏ وجزم الكلاباذي ومن تبعه كالبيهقي بأنه ابن جعفر البيكندي‏.‏

قوله ‏(‏عن منصور بن عبد الرحمن‏)‏ في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان حدثنا منصور وهو عند أبي نعيم في المستخرج من طريق الحميدي و ‏"‏ عبد الرحمن ‏"‏ والد منصور المذكور هو ابن طلحة بن الحارث عن ابن طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار العبدري الحجبي كما تقدم في ‏"‏ كتاب الحيض ‏"‏ ووقع هنا ‏"‏ منصور بن عبد الرحمن ابن شيبة ‏"‏ وشيبة إنما هو جد منصور لأمه، لأن اسم أمه صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي، وعلى هذا فيكتب ابن شيبة بالألف ويعرب إعراب منصور لا إعراب عبد الرحمن وقد تفطن لذلك الكرماني هنا ولصفية ولأبيها صحبة‏.‏

قوله ‏(‏أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا ذكر من المتن أوله ثم تحول إلى السند الثاني، ومحمد بن عقبة شيخه هو الشيباني يكني أبا عبد الله فيما جزم به الكلاباذي؛ وحكى المزي أنه يكنى أبا جعفر وهو كوفي، قال أبو حاتم ليس بالمشهور، وتعقب بأنه روي عنه مع البخاري يعقوب بن سفيان وأبو كريب وآخرون ووثقه مطين وابن عدي وغيرهما قال ابن حبان مات سنة خمس عشرة‏.‏

قلت‏:‏ فهو من قدماء شيوخ البخاري ماله عنده سوى هذا الموضع فيما ذكر الكلاباذي لكنه متعقب بأن له موضعا آخر، تقدم في الجمعة وآخر في غزوة المريسيع، وله في الأحاديث الثلاثة عنده متابع، فما أخرج له شيئا استقلالا ولكنه ساق المتن هنا على لفظه، وأما لفظ ابن عيينة فيه فتقدم في الطهارة، وتقدم هناك أن اسم المرأة السائلة أسماء بنت شكل بمعجمة وكاف مفتوحتين ثم لام، وقيل اسم أبيها غير ذلك كما تقدم مع سائر شرحه، قال ابن بطال‏:‏ لم تفهم السائلة غرض النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لم تكن تعرف أن تتبع الدم بالفرصة يسمى توضأ إذا اقترن بذكر الدم والأذى، وإنما قيل له ذلك لكونه مما يستحيي من ذكره؛ ففهمت عائشة غرضه فبينت للمرأة ما خفي عليها من ذلك، وحاصله أن المجمل يوقف على بيانه من القرائن وتختلف الأفهام في إدراكه، وقد عرف أئمة الأصول المجمل بما لم تتضح دلالته ويقع في اللفظ المفرد كالقرء لاحتماله الطهر والحيض، وفي المركب مثل أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح لاحتماله الزوج والولي، ومن المفرد الأسماء الشرعية مثل ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏ فقيل هو مجمل لصلاحيته لكل صوم ولكنه بين بقوله تعالى ‏{‏شهر رمضان‏}‏ ونحوه حديث الباب في قوله ‏"‏ توضئي ‏"‏ فإنه وقع بيانه للسائلة بما فهمته عائشة رضي الله عنها وأقرت على ذلك والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا فَدَعَا بِهِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ فَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَلَا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس‏.‏

قوله ‏(‏أم حفيد‏)‏ بمهملة وفاء مصغر اسمها هزيلة بزاي مصغر بنت الحارثة الهلالية أخت ميمونة أم المؤمنين، وهي خالة ابن عباس وخالة خالد بن الوليد، واسم أم كل منهما لبابة بضم اللام وتخفيف الموحدة وبعد الألف أخرى‏.‏

قوله ‏(‏وأضبا‏)‏ بضم الضاد المعجمة وتشديد الموحدة جمع ضب، ووقع في رواية الكشميهني بالإفراد‏.‏

قوله ‏(‏كالمتقذر لهن‏)‏ بقاف ومعجمة في رواية الكشميهني ‏"‏ له ‏"‏ وكذا في قوله ‏"‏ ما أكلن ‏"‏ وتقدم شرح هذا الحديث مستوفي في ‏"‏ كتاب الأطعمة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ فَقَالَ قَرِّبُوهَا فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي وَقَالَ ابْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ فَلَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وليقعد‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أو ليعقد ‏"‏ بزيادة الألف في أوله‏.‏

قوله ‏(‏أتي ببدر قال ابن وهب يعني طبقا‏)‏ هو موصول بسند الحديث المذكور‏.‏

قوله ‏(‏فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه‏)‏ هو منقول بالمعنى لأن لفظه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قربوها لأبي أيوب ‏"‏ فكأن الراوي لم يحفظه فكنى عنه بذلك، وعلى تقدير أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم عينه ففيه التفات، لأن نسق العبارة أن يقول ‏"‏ إلى بعض أصحابي ‏"‏ ويؤيد أنه من كلام الراوي قوله بعده ‏"‏ كان معه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فلما رآه كره أكلها‏)‏ فاعل كره هو أبو أيوب وفيه حذف تقديره ‏"‏ فلما رآه امتنع من أكلها وأمر بتقريبها إليه، كره أكلها ‏"‏ ويحتمل أن يكون التقدير ‏"‏ فلما رآه لم يأكل منها كره أكلها ‏"‏ وكان أبو أيوب استدل بعموم قوله تعالى ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏}‏ على مشروعية متابعته في جميع أفعاله ‏"‏ فلما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل تلك البقول تأسى به فبين له النبي صلى الله عليه وسلم وجه تخصيصه فقال‏:‏ إني أناجي من لا تناجى ‏"‏ ووقع عند مسلم في رواية له من حديث أبي أيوب كما تقدم في شرح هذا الحديث في أواخر ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ قبل ‏"‏ كتاب الجمعة ‏"‏ إني أخاف أن أوذي صاحبي، وعند ابن خزيمة إني استحيي من ملائكة الله وليس بمحرم ‏"‏ قال ابن بطال قوله ‏"‏ قربوها ‏"‏ نص على جواز الأكل، وكذا قوله ‏"‏ فإني أناجي ‏"‏ إلخ‏.‏

قلت‏:‏ وتكملته ما ذكرته واستدل به على تفضيل الملك على البشر وفيه نظر، لأن المراد بمن كان صلى الله عليه وسلم يناجيه من ينزل عليه بالوحي وهو في الأغلب الأكثر جبريل، ولا يلزم من وجود دليل يدل على أفضلية جبريل على مثل أبي أيوب أن يكون أفضل ممن هو أفضل من أبي أيوب، ولا سيما إن كان نبيا، ولا يلزم من تفضيل بعض الأفراد على بعض تفضيل جميع الجنس على جميع الجنس‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن عفير‏)‏ هو سعيد بن كثير بن عفير بمهملة وفاء مصغر نسب لجده وهو من شيوخ البخاري، وقد صرح بتحديثه له في المكان الذي أشرت إليه وساقه على لفظه، وساق عن أحمد بن صالح الذي ساقه هنا قطعة منه، وزاد هناك عن الليث وأبي صفوان طرفا منه معلقا وذكرت هناك من وصلهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي وَعَمِّي قَالَا حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ أَبَاهُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ فَقَالَتْ أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ أَجِدْكَ قَالَ إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ زَادَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبي وعمي‏)‏ اسم عمه يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال الدمياطي مات يعقوب سنة ثمان ومائتين وكان أصغر من أخيه سعد، انفرد به البخاري واتفقا على أخيه انتهى، وظن بعض من نقل كلامه أن الضمير في قوله أخيه ليعقوب، ومقتضاه أن يكون اتفقا على التخريج لسعد، ثم اعترض بأن الواقع خلافه وليس كما ظن، والاعتراض ساقط، والضمير إنما هو لسعد والمتفق عليه يعقوب، والضمير في قوله لأقرب مذكور وهو سعيد لا ليعقوب المحدث عنه أولا‏.‏

قوله ‏(‏قالا حدثنا أبي‏)‏ أي قال كل منهما ذلك‏.‏

قوله ‏(‏أن امرأة‏)‏ تقدم عن مناقب الصديق شرح الحديث وأنها لم تسم قوله ‏(‏زاد لنا الحميدي عن إبراهيم بن سعد إلخ‏)‏ يريد بالسند الذي قبله والمتن كله، والمزيد هو قوله ‏"‏ كأنها تعني الموت ‏"‏ وقد مضى في مناقب الصديق بلفظ ‏"‏ حدثنا الحميدي ومحمد بن عبد الله قالا حدثنا إبراهيم ابن سعد ‏"‏ وساقه بتمامه وفيه الزيادة، ويستفاد منه أنه إذا قال زادنا، وزاد لنا، وكذا زادني، وزاد لي، ويلتحق به، قال لنا‏.‏

وقال لي، وما أشبهها، فهو كقوله‏:‏ حدثنا بالنسبة إلى أنه حمل ذلك عنه سماعا لأنه لا يستجيزها في الإجازة ومحل الرد ما يشعر به كلام القائل من التعميم، وقد وجد له في موضع‏:‏ زادنا‏.‏

حدثنا، وذلك لا يدفع احتمال أنه كان يستجيز في الإجازة أن يقول‏:‏ قال لنا، ولا يستجيز‏:‏ حدثنا، قال ابن بطال‏:‏ استدل النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر قولها ‏"‏ فإن لم أجدك ‏"‏ أنها أرادت الموت فأمرها بإتيان أبي بكر، قال وكأنه اقترن بسؤالها حالة أفهمت ذلك وإن لم تنطق بها قلت‏:‏ وإلى ذلك وقعت الإشارة في الطريق المذكورة هنا التي فيها ‏"‏ كأنها تعني الموت ‏"‏ لكن قولها ‏"‏ فإن لم أجدك ‏"‏ أعم في النفي من حال الحياة وحال الموت؛ ودلالته لها على أبي بكر مطابق لذلك العموم، وقول بعضهم هذا يدل على أن أبا بكر هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم صحيح لكن بطريق الإشارة لا التصريح، ولا يعارض جزم عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف لأن مراده نفي النص على ذلك صريحا والله أعلم‏.‏

قال الكرماني مناسبة هذا الحديث للترجمة أنه يستدل به على خلافة أبي بكر، ومناسبة الحديث الذي قبله لأنه يستدل به على أن الملك يتأذى بالرائحة الكريهة‏.‏

قلت‏:‏ في هذا الثاني نظر لأنه قال في بعض طرق الحديث ‏"‏ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ‏"‏ فهذا حكم يعرف بالنص والترجمة، حكم يعرف بالاستدلال، فالذي قاله في خلافة أبي بكر مستقيم بخلاف هذا، والذي أشرت إليه من استدلال أبي أيوب على كراهية أكل الثوم بامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من جهة عموم التأسي أقرب مما قاله‏.‏